يخرج قارئ كتاب عن تاريخ الأغانى الشعبية المصرية بما يشبه النتيجة التى تشير الى أن المصريين يقاومون بالغناء كل شيء من الهموم اليومية الصغيرة الى الهزائم العسكرية.
يقول على الشناوى مؤلف كتاب "الاغنية الشعبية" ان المواطن المصرى بعد حرب 1967 بحث عن مهرب مما اعتبره هوانا وفقدان ثقة بالنفس فلجأ الى استهلاك أعمال غنائية وصفها بالممنوعة والهابطة لمؤدين مجهولين تصدروا عالم "الغناء السري" فى تلك المرحلة.
وحرص المؤلف على أن يسجل الجاذبية التى يحظى بها هذا اللون الغنائى لدرجة دعت مطربين كبارا الى تقديم أعمال ذات طابع شعبى ومنهم أم كلثوم وعبد الحليم حافظ الذى غازل جمهوره ببعض الاغنيات منافسا المطربين الشعبيين.
الأغنية الشعبية
ويعرف على الشناوى الأغنية الشعبية بانها العمل الذى يخرج من الناس ويعبر عنهم ويستطيعون غناءه حيث يكون لهذا اللون الغنائى أثر عميق فى تشكيل وجدان الشعب كما أن هؤلاء المطربين أناس عاديون يشعر المستمع بأنهم مثله وليسوا نجوما هبطوا من السماء.
وسجل بعض تجارب مطربين بارزين قدموا أغنيات شعبية منهم أم كلثوم فى "الفوازير" التى كتبها بيرم التونسى ويقول مطلعها.. "جول لى ولا تخبيش يا زين.. ايش تجول العين للعين" وعبد الحليم حافظ فى "على حسب وداد قلبي" وكذلك السورية فايزة أحمد فى "يامه القمر ع الباب" و "غازلة له يامه بايدى الطاقية" و"تمر حنة" كما غنت اللبنانية صباح "ع البساطة" و"الغاوى ينقط بطاقيته" والمصرى محمد فوزى "يا ولاد بلدنا يوم الخميس.. هاكتب كتابى وابقى عريس".
ومن أبرز المطربين الشعبيين محمد عبد المطلب "1910 - 1980" صاحب أغنيات "ساكن فى حى السيدة" و"السبت فات" و"ودع هواك" وعبد الغنى السيد "1912 - 1962" فى "البيض الامارة" و"ع الحلوة والمرة" ومحمد قنديل "1929 - 2004" فى "جميل واسمر" و"يا حلو صبح" و"أبو سمرة السكرة" وعبد العزيز محمود "1918 - 1991" فى "منديل الحلو" و"تاكسى الغرام" وكارم محمود "1922 - 1995" صاحب أغنية "عنابي".
ويأتى محمد رشدى "1928 - 2005" صاحب أغنيات "قولوا لمأذون البلد" و"كعب الغزال" وغيرها فى مقدمة الجيل الثانى من المطربين الشعبيين وأصبحت أغنيته "عدوية" اسما لشخص آخر قيل انه أداها ارتجالا فى أحد الافراح فصارت لقبا له وهو أحمد عدوية.
ويرى الشناوى ان الأغنية الشعبية شهدت تحولا منذ نهاية الستينيات فقد حدث لها فى كثير من الاحيان ما يشبه تغيير الجلد على أيدى من اعتبرهم منتسبين هبطوا بالغناء الشعبى الى مستوى "الكلمات التافهة والنكات السخيفة."
وأضاف أن عدوية أصبح رمزا لهذا الغناء الشعبى فى السبعينيات منذ ظهر "عقب النكسة" فى إشارة الى حرب يونيو حزيران 1967 التى استولت فيها اسرائيل على هضبة الجولان السورية وقطاع غزة والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية العربية وشبه جزيرة سيناء التى استعادتها مصر بعد معاهدة سلام أبرمتها مع اسرائيل عام 1979.
لكنه أشار الى أن عدوية غنى مواويل وأغانى من تلحين موسيقيين بارزين منهم سيد مكاوى وبليغ حمدى وكمال الطويل كما كتب له مأمون الشناوى الذى كتب لام كلثوم أغنيات منها "ودارت الايام" و"بعيد عنك".
كما أشار الى أن حرب 1967 والانفتاح الاقتصادى فى مصر منتصف السبعينيات تسببا فى دخول مفردات "غريبة" الى الغناء الشعبى كما يبدو من أغنيتى عدوية "بنج بنج بنج"" ألحان بليغ حمدى و"كراكشنجى دبح كبشه" التى كتبها مأمون الشناوى الى جوار أعمال أخرى تتفق مع منظومة الغناء الشعبى الذى يحث على الصبر والأمل ويلعن الفراق والخيانة كما يدعو الى الفرح بالحياة.
الغناء السري
وكشف الشناوى ان أغلب الغناء السرى فى تلك المرحلة كان حصاد مؤدين مجهولين ومنتجين تجار لا علاقة لهم بالفن وغرف للتسجيلات "تحت بير السلم" بدلا من الاستوديوهات وكانت الثمرة أغنيات "ممنوعة وهابطة وغير مجازة رقابيا اما لتدنى مستواها أو لعدم مراعاة الذوق والاداب العامة وأضحت الاغنية الشعبية التى كانت عنوانا للاصالة توصف بالاسفاف والهبوط."
وأرجع المؤلف بداية الغناء السرى الى كواء اسمه أنور العسكرى كان شرطيا فى الستينيات ومنها حمل لقب العسكرى وكان يرتجل "الغناء البلدي" بدون موسيقى واستعان به المخرج المسرحى فايز حلاوة "1932 - 2002" ليغنى فى مسرحية "قهوة التوتة" ثم اختاره مخرج اخر لغناء مقدمة مسلسل تلفزيونى نجح انذاك فاشتهر العسكرى ووجد من ينتج له اسطوانات.
ويعد حلاوة الذى تخرج فى كلية الحقوق بجامعة عين شمس مؤسس ما يعرف بالكباريه السياسى الذى يتناول علاقة المواطن بالسلطة. وأخرج مسرحيات منها "روبابيكيا" و"يحيا الوفد" و"البغل فى الابريق" و"الباب العالي".
وقال الشناوى ان نجاح أعمال العسكرى جعله "مدرسة" تخرج فيها كثيرون منهم شعبان عبد الرحيم وكتكوت الأمير وحسن الأسمر وعبد الباسط حمودة وهو معتمد من لجنة الاستماع بالاذاعة والتلفزيون منذ عام 1984 وحصل على بطاقة اعتماد كمطرب من لجنة استماع ضمت الموسيقيين محمد الموجى وبليغ حمدى وسيد مكاوى وحلمى بكر وعمار الشريعي.
وأبدى المؤلف حيرته من منع إذاعة أغانى حمودة فى التلفزيون المصرى "والأكثر غرابة" استمرار منع الاعلان عن أعماله.
وأضاف أن عدوية اشتهر فى بداياته بشارع محمد على بأداء مواويل العسكرى مشيرا الى أن ثلاثة يُنسب اليهم اكتشافه هم المطربة شريفة فاضل وسمير محجوب مؤلف أغنية"صافينى مرة" أول أعمال عبد الحليم والشاعر مأمون الشناوي.
وأضاف أن عام 1969 يؤرخ له ببداية مرحلة مختلفة منذ غنى عدوية "السح الدح امبو " حيث سجلها ثم ذهب الى ليبيا فى مطلع السبعينيات لمدة 21 يوما ليغنى هناك مقابل أربعة جنيهات مصرية عن كل ليلة. ثم استيقظ الشارع المصرى على الأغنية التى ساهم نجاحها فى أن تصبح حدا يفصل الغناء الشعبى قبلها وبعدها.
وقال المؤلف ان مبيعات الاغنية حققت لأول مرة فى مصر رقم المليون نسخة وهذا منح صاحبها الثقة بعد عودته من ليبيا فاستعانت به السينما لتضمن رواج الافلام. ولم تهتز شعبيته بسبب تجاهل أجهزة الاعلام له أو الهجوم عليه.
وأضاف أن هذا اللون الغنائى كان يجد طريقه الى المستهلك رغم مطاردات أجهزة الرقابة مشيرا الى تجربة سامى على الذى درس الموسيقى وحين تكرر إخفاقه فى تقديم عمل راق انتهى مغنيا خلف راقصة "من أجل لقمة العيش" .
كما أشار الى حكم قضائى عام 1986 بتغريم عدوية مبلغا ماليا بتهمة أداء "أغنيات مخلة بقواعد الآداب العامة" وسبق أن أُحيل عدوية عام 1985 الى النيابة وأُخلى سبيله بكفالة 500 جنيه لغنائه فى أحد الملاهى "بطريقة مثيرة."
وقال ان الغناء السرى كان يتبع تجمعات المصريين خارج البلاد ففى الثمانينيات كان بالعراق مئات الالاف من العمال المصريين الذين احتفوا بتجربة عادل المصرى وتبارت محلات الاشرطة ببغداد فى طبع أغنياته فى أشرطة وجدت رواجا.
نجوم الأغنية الشعبية
ويسجل الكتاب أن المصادفات صنعت نجوم الأغنية الشعبية فى مصر وأنهم ينتمون الى فئات دنيا فى المجتمع فبعضهم كواء وآخر صانع أحذية مثل فوزى العدوى صاحب أغنية "كله يرقص.. كله يغني" وثالث يقرأ القرآن فى المقابر مثل محمود سعد وكان منافسا لشعبان عبد الرحيم ورابع ميكانيكى هو سيد عبد الرحيم شبيه شعبان.
كما يسجل ابتكارات لهؤلاء المؤدين ليصنعوا البهجة فى الافراح فعلى سبيل المثال كان جابر النمر صاحب أغنيتى "العمدة الالي" و"محمود ايه ده يا محمود" ذا جسد نحيل فلجأ الى الجلوس على كرسى ويحمله المدعوون ليغنى فوق الاعناق "ويعد أول مطرب أدخل تجربة الغناء على الكراسى غير الموسيقية". أما أحمد العجوز الذى جاء من اسنا بصعيد مصر فساقاه مبتورتان ويغنى على كرسى متحرك "ويمتلك امكانات صوتية يحسده عليها كثيرون.
ودفع أحد هؤلاء "المطربين" وهو بيومى المرجاوى حياته فى حين كان يظن أن يسعد آخرين حيث أصابه طلق نارى وهو يغنى على المسرح بأحد الافراح الشعبية ففارق الحياة.
وتغنى "مطربون" آخرون بأسماء مسؤولين كما فعل شعبان عبد الرحيم حين غنى "بحب
عمرو موسى وبكره اسرائيل" بعد اندلاع الانتفاضة فى سبتمبر أيلول 2000 وتردد آنذاك أن الأغنية عجلت بانتقال عمرو موسى وزير الخارجية المصرى الأسبق من الوزارة الى منصب الأمين العام للجامعة العربية.