شهادة مسجون من مساجين الآخوان

توفي المستشار عبدالغفار محمد أحمد رئيس محكمة استئناف القاهرة قبل نحو أسبوعين، وهو الذي راس المحكمة التي حاكمت المتهمين فيما عرف بقضة الجهاد الكبرى في أعقاب اغتيال السادات عام 1981 وهي القضية الأكبر في تاريخ القضاء المصري حتى الآن، وكان من المفارقة أن ينعيه بعض من حكم عليهم المستشار نفسه بالسجن المؤبد بعد أن قضوا مدة محكوميتهم بالكامل بل وزادوا عليها سنوات أخرى في الاعتقال في مؤشر على اعترافهم بمهنية الرجل ونزاهته وحسن إدارته لهذه القضية الكبيرة التي كان يمكن بعدها إجراء مصالحات تاريخية مهمة والانطلاق بالمجتمع المصري لآفاق واسعة من الجهد والعمل والبناء بعيدا عن حالة التآكل والإقصاء السياسي للتيار الإسلامي والتي استنزفت طاقة مصر خلال العقود الأخيرة.

وقد ظن البعض أن صفحة هذا المستشار قد طويت بوفاته حتى نشرت صحيفة المصري اليوم أول أمس حوارا كانت قد أجرته معه قبل نحو عامين و كان المستشار قد طلب عدم نشره إلا بعد وفاته، فتسبب نشر الحوار الذي لم تنشره الصحيفة بالكامل لاعتبارات تتعلق بحساباتها السياسية والأمنية، وعلى الرغم من ذلك فقد بادرت أجهزة الأمن بعد ساعات من طباعة الصحيفة بالهجوم المباغت على منزل المستشار الكبير ، وقاموا بمصادرة مذكراته وأوراقه ومكتبته وكل ما وقع تحت أيديهم من أوراق واعتقلوا نجله المهندس محمد، وبذلك أظهر النظام كارت الإرهاب لكل من تسول له نفسه الحديث عن بعض أهم الوقائع في تاريخ مصر الحديث والإدلاء بشهادته عليها حيا كان أو ميتا.

والعبد الفقير لعفو ربه كاتب هذه السطور واحد ممن عاصروا هذه الفترة، وأحد المتهمين في هذه القضية التي نظرها المستشار عبدالغفار –رحمه الله- وواحد ممن حصلوا على الحكم بالبراءة في 30 سبتمبر 1984 بعد ثلاث سنوات من التعذيب والتلفيق والاعتقال في ليمان طرة كانت كفيلة بتدمير الكثير من الاتزان النفسي لمن مر بها، ولكني أشهد أن شخصية هذا الرجل وسلوكه الشجاع ومهنيته العالية أثناء نظر القضية التي استمر نظرها من 4 ديسمبر 1982 حتى 30 سبتمبر 1984 كانت من أهم العوامل التي أعادت لي الاتزان النفسي بعد أن حاول الطغاة تحطيمنا بسلوكهم البربري والغير إنساني معنا في السجون والمعتقلات.

وبما أنها كانت المرة الأولى لشاب مثلي في مقتبل العمر قليل الخبرة حيث كنت في الصف الثاني في كلية الصيدلة ، فقد ابهرتنا شخصية هذا المستشار ، رغم أن معظم المتهمين كانوا يعتقدون أنه جاء ليكمل المسرحية ويلقي بمعظمهم في غياهب السجون ويعلق بعضهم على أعواد المشانق بعد رحلة التعذيب التي مروا بها، ولم يكن لهم ثقة ولا إيمان بأهمية استقلال القضاء وهيبته ووقار رجاله، وهو الأمر الذي يجعلنا اليوم نجتهد بكل ما آوتينا لتكريس هذا الاستقلال والدفاع عنه وإصلاح أي خلل في المنظومة القضائية يحاول دعاة الطغيان وسدنة الديكتاتورية النفاذ منها حيث اخترق النظام خلال العقود الماضية بالفعل حصون القضاء واستقطبوا عدد من رجالاته عن طريق سياسات المنح والمنع والدفع بضباط المباحث في سلك النيابة ثم القضاء وهو الأمر الذي استشرى بعد ذلك.

ضخامة القضية وعدد المتهمين الذي بلغ 302 استدعت بناء قاعة خاصة في أرض المعارض في مدينة نصر، ومع التقدم في إجراءات المحاكمة بدأنا نشعر بأن هذا الرجل –رحمه الله- رجل غيور بقوة على أي شيء يمس نزاهته واستقلاله والتدخل في شئونه، حيث شهدت المحاكمة عددا غير قليل من الوقائع كانت جميعها تؤكد وتشير إلى أن في مصر رجال عظام، فكما أن هناك طغاة متجبرون يعصفون بكل القيم الإنسانية ويدوسون على القانون والدستور ، هناك أيضا في مصر قضاة عظام ورجال عظام في كل المجالات وهم كثر والحمد لله، ومن هنا جاء التوازن النفسي والإيمان بمصر وبإمكانية الإصلاح والتغيير في هذا البلد، وهو الدرس الذي ينبغي أن يعيه كل من يتعرض للظلم والقهر وتسد أمامه الأبواب فيعتقد أن هذا هو نهاية العالم ولا يرى الوجه الآخر في هذا البلد وهو الوجه العظيم الذي يعطينا الأمل في أن هذا البلد يملك الكثير من المقومات

كانت للمستشار عبدالغفار –يرحمه الله- صولات وجولات لا يتسع لها المقام، كان أبرزها عندما قدمت له نيابة أمن الدولة ومحاميها العام المستشار رجاء العربي قبيل صدور الحكم بأشهر قليلة 44 شريطا جرى تسجيلها بدون إذن المحكمة وبإذن من النيابة بمعرفة ضابط من حراس المحكمة وهي عبارة عن محادثات ومناقشات مع بعض المتهمين الذين استطاع التودد لهم في أقفاص المحكمة وبعضها كان بالصوت والصورة لتدعيم وجهة نظر النيابة في إدانة هؤلاء المتهمين، فاكتشفت المحكمة أن أحد هذه الأشرطة التي لم تسجل بإذن منها وهي صاحبة الولاية على كل ما يدور في المحكمة، أنها تتضمن تسجيلا لمحادثة جرت في غرفة المداولة لهيئة المحكمة بين المستشارين وأحد المتهمين ممن استدعتهم المحكمة لغرفة المداولة.

وفي جلسة مشهودة وبعد أن افتتح رئيس المحكمة الجلسة أصدر عددا من القرارات الحاسمة وكان أولها مصادرة جميع الأشرطة المقدمة من النيابة، وإغلاق غرفة المداولة وتشميعها بالشمع الأحمر حتى يجري رفع أجهزة التنصت منها، وأمر وزارة الداخلية برفع أي أجهزة للتنصت والتسجيل في المحكمة، وأمر بإبلاغ ريس محكمة استئناف القاهرة ورئيس محكمة النقض بالواقعة للتحقيق فيها، ثم قام برفع الجلسة فورا لتنفيذ قراره بتشميع غرفة المداولة بالشمع الأحمر.
وكانت القرارات صاعقة لكل من حاولوا تمرير هذه التمثيلية وانتهاك سيادة المحكمة.

وفي واقعة أخرى يشاء القدر أن تسرق الأحراز التي كانت محرزة على ذمة القضية من مخزن المحكمة وكان من بينها بعض الأسلحة المحرزة، واتجهت شبهات مباحث أمن الدولة إلى أن ما حدث كان بتخطيط من بعض المتهمين لإفشال القضية وأن هناك تنظيما يقف خلف العملية، فجن جنونهم وفتحوا سلخانات التعذيب من جديد في سجن القلعة الشهير، وبدءوا في ترحيل أعداد من المتهمين من السجون العمومية إلى سجن القلعة الذي كانت تشرف عليه مباحث أمن الدولة قبل أن يغلق نهائيا أواخر الثمانينات، وجرى تعذيب هؤلاء ببشاعة كبيرة للاعتراف بسرقة الإحراز رغم أنهم لم تكن لديهم أي معلومات عنها، ولما لم يجدوا أي نتيجة، اتجهت شبهاتهم نحو أمناء سر المحكمة وهم الموظفون الذين يكتبون محاضر الجلسات ويرتبون الملفات للقضاة وهم جزء من تشكيل المحكمة وإن كانوا لا يتمتعون بالحصانة القضائية، فقاموا باعتقالهم وعددهم أربعة، وقاموا بتعذيبهم بقسوة في سجن القلعة وكانوا في زنزانات مجاورة لزنازين باقي المتهمين، الذين كانت تصلهم صرخات أمناء سر المحكمة وكان لبعض أمناء السر جذور عائلية تعود للصعيد فقاموا باعتقال أقاربهم هناك كرهائن وقاموا بتعذيبهم أيضا، واستمرت هذه المحنة لعدة أسابيع حتى اكتشفوا بعد ذلك أن من سرق الأحراز هو مساعد شرطة كان هو المكلف بحراستها وأنه كان يبيعها لمروره بضائقة مالية!!!.

وحاولت وزارة الداخلية الاعتذار بعد ذلك لأمناء سر المحكمة وسفروهم للحج على نفقة وزارة الداخلية وهددوهم إذا ما قاموا بعمل شكاوى رسمية، ولكن هل يغني ذلك عن كرامتهم وإنسانيتهم التي أهينت، وكانت هذه فرصة نادرة للمستشار عبد الغفار محمد أحمد وهيئة المحكمة معه ليعاينوا بأنفسهم ليس فقط التعذيب على أجساد المتهمين، ولكن حتى على أجساد بعض من يعملون معهم من الأمناء على أسرار المحكمة وملفات القضية، واستمعوا منهم كيف عذبوهم وعلقوهم لجرم لم يقترفوه وهم الأبرياء، وقد شاءت الأقدار أن ألتقي بأحدهم بعد سنوات من هذه الحادثة وحكى لي كيف اغرورقت أعين المستشار عبدالغفار بالدموع وهو يشاهد آثار التعذيب الوحشي على أجسادهم ويستمع منهم لما عاينوه من تعذيب للمتهمين الآخرين، وقد كان لهذه الواقعة أثرها بالإضافة لمئات من تقارير الطب الشرعي التي وافقت شهادات المتهمين في أن يستقر في يقين المحكمة من تعرض غالبية المتهمين للتعذيب البشع الذي ورد في حيثيات حكمها التي نشرت في كتاب كامل، وأمرت المحكمة في هذه الحيثيات النائب العام بتحريك الدعوى الجنائية ضد عدد من كبار ضباط مباحث أمن الدولة ومصلحة السجون، وكان على رأسهم محمد عبدالفتاح عمر الذي وصل بعد ذلك لرتبة اللواء في جهاز أمن الدولة وهو وكيل لجنة الأمن في مجلس الشعب الآن، وهو الإجراء الذي لن يغفره سدنة التعذيب للمستشار عبدالغفار.

ورغم أن الدولة اضطرت لمحاكمة هؤلاء عام 1986 إلا أن براءتهم كانت مضمونة لأنهم اختاروا لهم دائرة منتقاة لمحاكمتهم، أبطلت كل شهادات المتهمين وتقارير الطب الشرعي باعتبار أن المعذبين كانوا معصوبي الأعين، وبالتالي شككت في تحديدهم لشخصيات من عذبوهم.، وقامت الداخلية بدفع كافة تكاليف المحامين، وصرفت مكفآت كبيرة للضباط وسفرتهم أيضا للحج على نفقة وزارة الداخلية.

لقد كانت للمستشار عبد الغفار –يرحمه الله- صولات كبيرة في ساحة العدالة واستقلال القضاء لا يتسع المقام لذكرها جعلتهم لا ينسون له مواقفه ولا ينسون أنه القاضي الذي تحدث في حيثياته البليغة عن نبل غاية المتهمين ورفض أن يقضي بإعدام أحد منهم رغم أن النيابة طالبت بإعدام كل المتهمين وعددهم 302 متهما.

إنني أطالب نادي القضاة ونقابة المحامين وكل الأحرار في مصر بأن يطالبوا باحترام سيرة وتاريخ هذا القاضي النزيه الذي تعامل بمهنية واحتراف مع القضية الأكبر في تاريخ القضاء المصري، وينبغي حماية تراثه ومذكراته لأنها ملك للأجيال القادمة وملك لتاريخ هذا البلد الذي يراد تحريفه وتزويره، وذلك بحماية حق المجتمع في المعرفة، لأن الاستمرار في تضليل الناس وإخفاء الحقائق هو علامة من علامات التخلف.

إن الأمم التي تحترم ذاكرة شعوبها لا تفوت الفرص والأزمات بدون عمل لجان تحقيق مستقلة لتدارس الوقائع والنكبات والإخفاقات واستخلاص النتائج منها، ولن أتحدث عن إسرائيل ولجان التحقيق فيها التي تنتهي لنتائج محددة، ولكن ها هي بريطانيا شكلت لجنة تحقيق مستقلة للتحقيق في كل ملابسات توريط بريطانيا في حرب العراق، مع منح اللجنة كل الحق في الوصول إلى كل الوثائق مهما كانت سريتها واستجواب كل الأشخاص مهما كانت مراكزهم بدءً من رئيس الوزراء السابق توني بلير حتى أصغر مسئول في الدولة، ليعرف البريطانيون حقيقة من زج ببريطانيا في هذه الحرب غير العادلة والعدوانية، رغم أن حكومة ونواب حزب العمال أنفسهم هم من اتخذوا القرار بتشكيل هذه اللجنة استجابة لمطالب الشعب.

» فيلم مسجون ترانزيت .vcd
» شهادة ودق تعانق أرواحكم
» فهم الآخوان للآسلام
» حقيقة الآخوان المسلمون
» من أخطر ملفات الآخوان ( قصة جماعة اجهاد )